فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعلى الثاني لما قال: إن الإنذار لا ينفع من أضله الله، وكتب عليه أنه لا يؤمن، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اضرب لنفسك، ولقومك مثلًا: أي: مثل لهم عند نفسك مثلًا بأصحاب القرية حيث جاءهم ثلاثة رسل، ولم يؤمنوا، وصبر الرسل على الإيذاء، وأنت جئت إليهم واحدًا، وقومك أكثر من قوم الثلاثة، فإنهم جاءوا إلى أهل القرية، وأنت بعثتك إلى الناس كافة.
والمعنى: واضرب لهم مثلًا أصحاب القرية: أي: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، فترك المثل، وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب.
وقيل: لا حاجة إلى الإضمار، بل المعنى: اجعل أصحاب القرية لهم مثلًا على أن يكون {مثلًا} و{أصحاب القرية} مفعولين لاضرب، أو يكون أصحاب القرية بدلًا من مثلًا، وقد قدّمنا الكلام على المفعول الأوّل من هذين المفعولين هل هو: مثلًا، أو أصحاب القرية.
وقد قيل: إن ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله: {ضَرَبَ الله مَثَلًا لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأة نُوحٍ وامرأة لُوطٍ} [التحريم: 10]، ويستعمل أخرى في ذكر حالة غريبة، وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيره لها كما في قوله: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} [إبراهيم: 45] أي: بينا لكم أحوالًا بديعة غريبة: هي في الغرابة كالأمثال؛ فقوله سبحانه هنا: {واضرب لَهُمْ مَّثَلًا} يصح اعتبار الأمرين فيه.
قال القرطبي: هذه القرية هي: أنطاكية في قول جميع المفسرين.
وقوله: {إِذْ جَاءَهَا المرسلون} بدل اشتمال من أصحاب القرية، والمرسلون: هم أصحاب عيسى، بعثهم إلى أهل أنطاكية للدّعاء إلى الله، فأضاف الله سبحانه الإرسال إلى نفسه في قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين} لأن عيسى أرسلهم بأمر الله سبحانه، ويجوز: أن يكون الله أرسلهم بعد رفع عيسى إلى السماء، فكذبوهما في الرسالة، وقيل: ضربوهما، وسجنوهما.
قيل: واسم الاثنين يوحنا، وشمعون.
وقيل: أسماء الثلاثة: صادق، ومصدوق، وشلوم قاله ابن جرير، وغيره.
وقيل: سمعان، ويحيى، وبولس {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} قرأ الجمهور بالتشديد، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف الزاي.
قال الجوهري: {فعزّزنا} يخفف، ويشدّد: أي: قوّينا، وشدّدنا، فالقراءتان على هذا بمعنى.
وقيل: التخفيف بمعنى: غلبنا، وقهرنا، ومنه {وَعَزَّنِى في الخطاب} [ص: 23] والتشديد بمعنى: قوّينا وكثرنا.
قيل: وهذا الثالث هو شمعون، وقيل: غيره {فَقَالُواْ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} أي: قال الثلاثة جميعًا، وجاءوا بكلامهم هذا مؤكدًا لسبق التكذيب للاثنين، والتكذيب لهما تكذيب للثالث، لأنهم أرسلوا جميعًا بشيء واحد، وهو: الدعاء إلى الله عزّ وجلّ، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر؛ كأنه قيل: ما قال هؤلاء الرّسل بعد التعزيز لهم بثالث؟ وكذلك جملة {قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدّر: كأنه قيل: فما قال لهم أهل أنطاكية، فقيل: قالوا: ما أنتم إلاّ بشر مثلنا: أي: مشاركون لنا في البشرية، فليس لكم مزية علينا تختصون بها.
ثم صرّحوا بجحود إنزال الكتب السماوية، فقالوا: {وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَىْء} مما تدّعونه أنتم، ويدّعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل، وأتباعهم {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} أي: ما أنتم إلاّ تكذبون في دعوى ما تدّعون من ذلك، فأجابوهم بإثبات رسالتهم بكلام مؤكد تأكيدًا بليغًا لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية، وهو قولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} فأكدوا الجواب بالقسم الذي يفهم من قولهم: ربنا يعلم، وبإنّ، وباللام.
{وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البلاغ المبين} أي: ما يجب علينا من جهة ربنا إلاّ تبليغ رسالته على وجه الظهور، والوضوح، وليس علينا غير ذلك، وهذه الجملة مستأنفة كالتي قبلها، وكذلك جملة {قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} فإنها مستأنفة جوابًا عن سؤال مقدّر: أي: إنا تشاءمنا بكم، لم تجدوا جوابًا تجيبون به على الرسل إلاّ هذا الجواب المبنيّ على الجهل المنبىء عن الغباوة العظيمة، وعدم وجود حجة تدفعون الرسل بها.
قال مقاتل: حبس عنهم المطر ثلاث سنين.
قيل: إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين، ثم رجعوا إلى التجبر، والتكبر لما ضاقت صدورهم، وأعيتهم العلل، فقالوا: {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ} أي: لئن لم تتركوا هذه الدعوى، وتعرضوا عن هذه المقالة؛ لنرجمنّكم بالحجارة {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: شديد فظيع.
قال الفرّاء: عامة ما في القرآن من الرجم المراد به القتل.
وقال قتادة: هو على بابه من الرجم بالحجارة.
قيل: ومعنى العذاب الأليم: القتل، وقيل: الشتم، وقيل: هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع خاص، وهذا هو الظاهر.
ثم أجاب عليهم الرسل دفعًا لما زعموه من التطير بهم فقالوا: {طائركم مَّعَكُمْ} أي: شؤمكم معكم من جهة أنفسكم، لازم في أعناقكم، وليس هو من شؤمنا.
قال الفراء: {طائركم معكم} أي: رزقكم وعملكم، وبه قال قتادة.
قرأ الجمهور {طائركم} اسم فاعل: أي: ما طار لكم من الخير، والشرّ، وقرأ الحسن {أطيركم} أي: تطيركم {أَءن ذُكّرْتُم}.
قرأ الجمهور من السبعة، وغيرهم بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية على الخلاف بينهم في التسهيل والتحقيق، وإدخال ألف بين الهمزتين، وعدمه.
وقرأ أبو جعفر، وزرّ بن حبيش، وابن السميفع، وطلحة بهمزتين مفتوحتين.
وقرأ الأعمش، وعيسى بن عمر، والحسن {أين} بفتح الهمزة، وسكون الياء على صيغة الظرف.
واختلف سيبويه، ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب؟ فذهب سيبويه إلى أنه يجاب الاستفهام، وذهب يونس إلى أنه يجاب الشرط، وعلى القولين، فالجواب هنا محذوف: أي: أئن ذكرتم، فطائركم معكم لدلالة ما تقدّم عليه.
وقرأ الماجشون {أن ذكرتم} بهمزة مفتوحة: أي: لأن ذكرتم.
ثم أضربوا عما يقتضيه الاستفهام، والشرط من كون التذكير سببًا للشؤم، فقالوا: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي: ليس الأمر كذلك، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في المعصية.
قال قتادة: مسرفون في تطيركم.
وقال يحيى بن سلام: مسرفون في كفركم، وقال ابن بحر: السرف هنا: الفساد، والإسراف في الأصل: مجاوزة الحاء في مخالفة الحقّ.
{وَجَاء مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى} هو: حبيب بن موسى النجار، وكان نجارًا، وقيل: إسكافًا.
وقيل: قصارًا.
وقال مجاهد، ومقاتل: هو: حبيب بن إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام.
وقال قتادة: كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى، وجملة {قَالَ يَاقَوْم اتبعوا المرسلين} مستأنفة جواب سؤال مقدّر: كأنه قيل: فماذا قال لهم عند مجيئه؟ فقيل: قال: يا قوم اتبعوا المرسلين هؤلاء الذين أرسلوا إليكم، فإنهم جاءوا بحق.
ثم أكد ذلك، وكرّره، فقال: {اتبعوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْرًا} أي: لا يسألونكم أجرًا على ما جاءوكم به من الهدى {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} يعني: الرسل.
ثم أبرز الكلام في معرض النصيحة لنفسه، وهو يريد مناصحة قومه، فقال: {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِى} أي: أيّ مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني؟ ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه، بل أرادهم بكلامه، فقال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ولم يقل: إليه أرجع، وفيه مبالغة في التهديد.
ثم عاد إلى المساق الأوّل لقصد التأكيد، ومزيد الإيضاح، فقال: {أَءتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءالِهَةً} فجعل الإنكار متوجهًا إلى نفسه.
وهم المرادون به: أي: أتخذ من دون الله آلهة، وأعبدها، وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني.
ثم بيّن حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكارًا عليهم، وبيانًا لضلال عقولهم، وقصور إدراكهم، فقال: {إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنّى شفاعتهم شَيْئًا} أي: شيئًا من النفع كائنًا ما كان {وَلاَ يُنقِذُونَ} من ذلك الضرّ الذي أرادني الرحمن به.
وهذه الجملة صفة لآلهة، أو مستأنفة لبيان حالها في عدم النفع، والدفع، وقوله: {لاَّ تُغْنِ} جواب الشرط، وقرأ طلحة بن مصرّف {إن يردني} بفتح الياء، قال: {إِنّى إِذًا لَّفِى ضلال مُّبِينٍ} أي: إني إذا اتخذت من دونه آلهة لفي ضلال مبين واضح، وهذا تعريض بهم كما سبق، والضلال الخسران.
ثم صرّح بإيمانه تصريحًا لا يبقى بعده شكّ، فقال: {إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ فاسمعون} خاطب بهذا الكلام المرسلين.
قال المفسرون: أرادوا القوم قتله، فأقبل هو على المرسلين، فقال: إني آمنت بربكم أيها الرسل، فاسمعون: أي: اسمعوا إيماني، واشهدوا لي به.
وقيل: إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلبًا في الدين، وتشدّدًا في الحقّ، فلما قال هذا القول، وصرّح بالإيمان، وثبوا عليه، فقتلوه، وقيل: وطئوه بأرجلهم، وقيل: حرقوه، وقيل: حفروا له حفيرة، وألقوه فيها، وقيل: إنهم لم يقتلوه بل رفعه الله إلى السماء، فهو في الجنة، وبه قال الحسن، وقيل: نشروه بالمنشار.
{قِيلَ ادخل الجنة} أي: قيل له ذلك تكريمًا له بدخولها بعد قتله كما هي سنّة الله في شهداء عباده.
وعلى قول من قال: إنه رفع إلى السماء، ولم يقتل يكون المعنى: أنهم لما أرادوا قتله نجاه الله من القتل، وقيل له: ادخل الجنة، فلما دخلها، وشاهدها {قَالَ ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين} والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، أي: فماذا قال بعد أن قيل له: ادخل الجنة، فدخلها.
فقيل: قال: {يا ليت قومي} إلخ، وما في {بِمَا غَفَرَ لِى} هي: المصدرية: أي بغفران ربي، وقيل: هي الموصولة: أي: بالذي غفر لي ربي، والعائد محذوف: أي: غفره لي ربي، واستضعف هذا؛ لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة، وليس المراد: إلاّ التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له.
وقال الفراء: إنها استفهامية بمعنى: التعجب، كأنه قال: بأيّ شيء غفر لي ربي.
قال الكسائي: لو صح هذا لقال بم من غير ألف.
ويجاب عنه بأنه قد ورد في لغة العرب إثباتها، وإن كان مكسورًا بالنسبة إلى حذفها، ومنه قول الشاعر:
على ما قام يشتمني لئيم ** كخنزير تمرغ في دمان

وفي معنى تمنيه قولان: أحدهما: أنه تمنى أن يعلموا بحاله؛ ليعلموا حسن مآله، وحميد عاقبته إرغامًا لهم.
وقيل: إنه تمنى أن يعلموا بذلك؛ ليؤمنوا مثل إيمانه، فيصيروا إلى مثل حاله.
وقد أخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله: {واضرب لَهُمْ مَّثَلًا أصحاب القرية} قال: هي: أنطاكية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن بريدة مثله.
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان بين موسى بن عمران، وبين عيسى ابن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبيّ من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى، والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أوّلها ثلاثة أنبياء، وهو قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} والذي عزّز به شمعون، وكان من الحواريين، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولًا أربعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضًا في قوله: {طائركم مَّعَكُمْ} قال: شؤمكم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضًا في قوله: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ} قال: هو: حبيب النجار.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر، قال: اسم صاحب يس: حبيب، وكان الجذام قد أسرع فيه.
وأخرج الحاكم عن ابن مسعود قال: لما قال صاحب يس {ياقوم اتبعوا المرسلين} خنقوه؛ ليموت، فالتفت إلى الأنبياء، فقال: {إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ فاسمعون} أي: فاشهدوا لي. اهـ.

.قال القاسمي:

{يس} تقدم الكلام في مثل هذه الفواتح مرارًا. وحاصله- كما قاله أبو السعود- أنها إما مسرودة على نمط التعديد، فلا حظّ لها من الإعراب، أو اسم للسورة كما نص عليه الخليل وسيبويه، وعليه الأكثر، فمحله الرفع على أنه خبر محذوف، أو النصب، مفعولًا لمحذوف، وعليهما مدار قراءة: {يس} بالرفع والنصب.
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} أي: ذي الحكمة أو الناطق بالحكمة، ولما كانت منزلة الحكمة من المعارف، منزلة الرأس، وكانت أخص، أو صاف التنزيل، أوثِرت في القَسم به دون بقية صفاته، لذلك.
{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو الوصل إلى المطلوب بدون لغوب. والتنكير للتفخيم والتعظيم.
{تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} بالنصب على إضمار فعله، وبالرفع خبر لمحذوف، أو خبر ل: {يس} إن كان اسمًا للسورة، أو مؤولًا بها. والجملة القسمية معترضة، والقسم لتأكيد المقسَم عليه والمقسَم به، اهتمامًا.
{لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} أي: برسول ولا كتاب: {فَهُمْ غَافِلُونَ} أي: عن أمر حق الخالق والمخلوق، بالكفر، والفساد، ونكران البعث، والمعاد.
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} أي: استأهلوا لأن ينزل بهم العذاب، وينتقم منهم أشد الانتقام: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: لا يريدون أن يؤمنوا ويهتدوا، كفرًا، وكبرًا، وعنادًا، وبغيًا في الأرض بغير الحق.
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ} أي: اللحى؛ أي: واصلة إليها وملزوزة إليها: {فَهُم مُّقْمَحُونَ} أي: ناصبو رءوسهم، غاضّو أبصارهم. يقال: أقمح الرجل، في رأسه وغض بصره. وأقمح الغلّ الأسير، إذا ترك رأسه مرفوعًا لضيقه، فهو مقمح، إذا لم يتركه عمود الغل الذي ينخس ذقنه، أن يطأطئ رأسه. قال ابن الأثير: هي في قوله تعالى: {فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ} كناية عن الأيدي لا عن الأعناق؛ لأن الغلّ يجعل اليد تلي الذقن والعنق، وهو مقارب للذقن. وقال الأزهري: أراد عز وجل أن أيديهم لما غلّت عند أعناقهم، رفعت الأغلال أذقانهم ورءوسهم صُعُدًا، كالإبل الرافعة رءوسها، وهذا معنى قول ابن كثير: اكتفى بذكر الغل في العنق، عن ذكر اليدين، وإن كانتا مرادتين، لما دل السياق عليه؛ فإن الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق.
{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} قال الزمخشري: مثل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين، في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رءوسهم له، وكالحاصلين بين سدّين، لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم، في أن لا تأمل لهم ولا تبصر، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله. انتهى. أي: فالمجموع استعارة تمثيلية.